Menu

15. تقنيات المقابلة

ليس من السهل أن نجعل الشخص يتكلّم في حال لم يكن يرغب في ذلك، أو إذا كان يتكلّم من دون أن يقول شيئاً فعلياً، أو يتفوّه بكلمات مقنّعة خوفاً من أن يتفوّه بمعلومات أكثر من اللازم. إنّ استجواب شخص معيّن للحصول على معلومات واضحة ودقيقة يتطلّب التمتّع بمعارف وكذلك بالدراية، والمهارة، وحتّى الحنكة. في ممارسة الصحافة، تُعتبر المقابلة فنّاً.

عشرة أسرار لإجراء مقابلة جيدة: 

1- خلق جوّ من الثقة

كلّ مقابلة هي عبارة عن مباراة رياضية. يتّخذ الشخص الذي يُجري المقابلة دائماً موقع الدونية لأنه هو مَن يطلب هذه المقابلة. لكي تكون المباراة ودّية، ينبغي التقرّب من الشخص الذي تتمّ مقابلته بلطف. إنّ البدء بالتواصل خطياً مطمئن أكثر من التواصل عبر الهاتف. من الضروري إقناع الشخص الذي نتحاور معه أنّ شهادته قيّمة وأن نضمن له أنّه بالتأكيد لن يتمّ نشر أيّ من كلامه دون موافقته. عندما أراسلُ ليوليوس قيصر بهدف جعله يتفاعل مع اكتشافاتي حول تمويل رحلاته العسكرية، أحاول بذلك أن أقنعه. أضع نصب أعيني أنّه، من خلال إجراء المقابلة معه، أمنحه فرصة للردّ على التشهير الذي طالَه في روما بشأن الوسائل التي يعتمدها…

2- التأكد من الاحتفاظ بكلّ الأوراق الرابحة

لا نحاوِر بالطريقة نفسها الممثلين المنتَخَبين، أو الموظفين المدنيين، أو مديري الشركات أو الكاتبين. لكن كائناً مَن كان هذا الشخص، لا تكون المقابلة مثمرة إلا إذا تمّ التحضير لها بعنايةأطلبُ إجراء مقابلة مع قيصر عندما أشعر أنني جاهز لإدارة المواجهة. وأكون جاهزاً عندما أجمع القدر الأكبر من المعطيات الوثائقية عنه وعن أصدقائه وأعدائه، وعندما أضع “دليل إجراء المقابلات” بشكل جيّد، أيّ بتعبير آخر، قائمة بالأسئلة المفصّلة والدقيقة نسبياً من أجل مواجهة مساعيه الرامية إلى الخروج عن الموضوع وحثّه على الخروج عن صمته…

3- اختيار الاستراتيجية المناسبة

هناك ثلاث أنواع من المقابلات والتي لا تعطي جميعها النتائج نفسها.

مقابلة منظمة تقضي بطرح أسئلة دقيقة جداً مع رفض الخروج عن الموضوع والإجابات المراوغة. إنها طريقة عدائية تَصلح في المقابلات القصيرة مثل “الاستفتاءات الشعبية”: ثلاثة أسئلة، ثلاث إجابات من خمسة أسطر لكلّ إجابة… لا نُخضع قيصر لاستفتاء شعبي!

* مقابلة غير منظمة تقضي بطرح سؤال تمهيدي مفتوح جداً، ومن ثمَّ السماح للشخص الذي نحاوره بأخذ زمام الكلام على سجيّته. هذه الطريقة اللينة مفيدة من أجل اكتشاف سمات هذا الشخص عندما لا نكون نعرف شيئاً عنه، لكنها نادراً ما تكون مُنتجة من حيث المعلومات. إنْ تركتُ قيصر يتحدث لوحده فلن يقول شيئاً، بطبيعة الحال، حول تمويلاته السرية.

* مقابلة شبه منظمة هي الأنسب لممارسة مهنة الصحافة. تقضي هذه المقابلة بالمزج بين الأسئلة المفتوحة والأسئلة المغلقة، وبين الأسئلة العامة والأسئلة المفصّلة. يسمح هذا المزج بإعادة إطلاق الحوار، وبتشجيع التبادلات، كما أنّه يُقيم علاقة تشاركية وتعاونية حتّى. سأستخدم هذه الاستراتيجية “الاحتوائية” مع قيصر. سأطرح في البداية أسئلة عامة: “كيف تموّلون حملاتكم؟” ثم أتركه يعبّر بكلّ حرّية، ولن أتدخّل. فإنصاتي له باهتمام وبشاشة سيُريحه. بعد ذلك، عند خروجه عن الموضوع، سأعيد الحوار إلى مساره الصحيح بكل هدوء من خلال طرح أسئلة دقيقة تترافق مع مراجع تُثبت مهنيّتي: “كنتُ الأسبوع الماضي في روما وتناولتُ الغداء عند لوسولوس مع أصدقائي المصرفيين، وعلمتُ أنّه منذ وصولكم إلى الغال، ضاعفتم ثروتكم 10 مرّات… هل هذا صحيح؟” 

4- اختيار المكان المناسب

لا نقوم باستجواب الأشخاص في أيّ مكانفلا نُجري مقابلة مع قيصر في المقهى الواقع عند زاوية الشارع. عندما نكون نحن مَن طلب إجراء المقابلة، نتوجّه إلى مكان تواجُد الشخص الآخر. ينبغي تجنّب الأماكن العامّة وبشكل خاص المقاهي أو المطاعم. فالضجيج قد يعطّل المحادثات كما أنّ وجود شهود قد يُزعج الشخص الذي يتم إجراء المقابلة معه. من هنا، ينبغي اختيار مكان هادئ وصافي ويُفضّل أن يكون مكتباً أو صالوناً. قد تكون الأماكن العامة مناسبةً إذا كانت الغاية الدردشة بشكل غير رسمي مع “أشخاص ثانويين” أو مع بعض المُخبرين الذين لا يستطيع الجمهور التعرّف على هويّتهم.

5- اختيار النبرة الصائبة

المقابلة هي مباراة لكنّها ليست مباراة ملاكمة. هي على العكس عبارة عن لقاء مُبهَم، وجهاً لوجه، يسعى فيه كلّ شخص إلى إغراء الآخر للحديث أكثر. إنّ العدائية من جانب الصحافي لا تكون مُنتجة. فليس من خلال تقمص مَظهر الشخص العدائي نستطيع الحصول على الأسرار. فالشخص المُستجوَب ليس عدوّ الصحافي. من هنا، لا ينبغي استفزازه أو محاربته أو الانتصار عليه. بل يجب إقامة علاقة مبنية على الاحترام المتبادل معه، على الأقل أثناء المحادثة. بالتالي، فالنبرة المناسبة هي النبرة الحيادية والمتسامحة، أو الخيّرة. أنا لا أشارك أفكار قيصر لكنني أعترف بحقّه في التعبير عن هذه الأفكار بحريّة، وإنْ حدثَ أن اعترضتُ على ما يَرِد في حديثه، أقوم بذلك بلباقة.

6- معرفة الطريقة المثلى لطرح الأسئلة

لا نكسب ثقة الشخص الذي نحاوره من خلال طرح الأسئلة المنحازة، والتي تحمل معنييْن، أو الخارجة عن الموضوع. فالطريقة المناسبة لإجراء المقابلة تقضي ببلورة أسئلة واضحة ودقيقة، تكون فيها كلّ كلمة موزونة، ويكون تسلسل الأسئلة منطقياً، ويدور حول الإشكالية المركزية؛ أمّا محتوى الأسئلة فيُظهر لمَن نحاوره، إذا كان متسّقاً ودقيقاً، أنّ الصحافي على معرفة جيّدة بالموضوع أو بالملفّ الذي يجري التحاور فيه. من هنا، تكمن الأهمية البالغة “لدليل إجراء المقابلات”. فوضع هذا الدليل قبل إجراء مقابلتك، يتيح لك إحكام السيطرة على المقابلة حتّى إنْ مالَ مَن نحاوره إلى الإجابة “خارج الموضوع”… إذا طرحتُ على قيصر أسئلة حول قيمة عمليات السلب التي قام بها في الغال، عليّ أن أملك نقاطاً صلبة للمقارنة، على سبيل المثال، أرقام جرى التحقق منها، تدلّ على الثروات التي أحضَرها من إسبانيا عن طريق “عرّابه” بومبي، وإلا فلن يأخذني الشخص الذي أحاوره على محمل الجدّ.

7- طرح الأسئلة المناسبة

السؤال المناسب هو السؤال الواضح والدقيق والمفهوم والحيادي المُصاغ بشكل لا يحثّ الشخص الآخر على الإجابة بالإكراه، غير أنّ السؤال يكون دسماً من حيث المعنى لدرجة تجعل فيها الإجابة الصحافي يتقدّم نحو ما يسعى إلى الحصول عليه مِن المُتحاور معه. قد يكون هذا “سؤالاً ثانوياً”. يتطلب طرح “السؤال الثانوي” المناسب في الوقت المناسب معرفة تامة بالموضوع. يتوصّل الصحافي إلى ذلك، مع تقدُّم طرح الأسئلة، من خلال طرح الأسئلة الأبسط لينتهي بطرح الأسئلة الثانوية الأكثر تعقيداً. لديّ “سؤال ثانوي” سياسي جيّد أطرحه على قيصر عندما يُثبت لي تضاعف ثروته 10 مرّات منذ حملته الأولى في الغال: “بواسطة مثل هذه الثروة، قد يحلم أيّ قنصل روماني بأن يصبح إمبراطوراً. هل يراودكم مثل هذا الحلم؟” 

8- عدم فرض رقابة ذاتية على نفسك

تُواجَه الأسئلة الجيدة أحياناً بالتهرّب أو برفض الإجابة. غير أنّ الصحافي لا يجب أن يستسلم. فمَهمّته المتمثلة في “البحث عن الحقائق” تفرض عليه إعادة استلام مهامه بطريقة مهذّبة، وهادئة، وواضحة، على الأقل لمرّة واحدة. إنْ لم تؤدي إعادة إطلاق الحوار إلى نتيجة أفضل، يصبح رفض الشخص المُحاوَر بمثابة خبر بليغ، ينبغي نقله إلى القارئ. أتوقع ألاّ يجيب قيصر على “سؤالي الثانوي”. إذا ما أعرب عن طموحه بأن يُكلّل إمبراطوراً، فسيقوم مجلس الشيوخ الجمهوري في روما بإبعاده عن منصب القيادة على الفور. لكن إذا رفض الإجابة على سؤالي فسأذكر ذلك في مقالتي…

9- نقل محتوى المقابلة دون تشويه الحقائق

يؤدي تسجيل المقابلة إلى تحرير الصحافي من تدوين الملاحظات باستمرار ويكفل لمَن تتمّ مقابلته عدم التلاعب بأقواله. لكن، لا يجري استخدام المسجِّل إلاّ بموافقة مَن يجري إجراء المقابلة معه، مع القبول بإيقاف التسجيل كلّما رغب هذا الأخير بذلك. نقوم بأنفسنا بقطع التسجيل بطريقة مهذّبة عند أدنى تدخّل في الحديث، مثلاً في حال تداخل مكالمة هاتفية في الحوار.  لا يعفي اللجوء إلى المسجِّل الصحافي من تدوين الملاحظات على امتداد الحوار. وذلك للإتيان على ذكر ما لم يَرِد في التسجيل: الضحكات، وحركات الوجه، والتردّد، والتشنّجات اللاإرادية، وغيرها. يجب في نهاية المقابلة الاتفاق على ما إذا كان ينبغي الاتفاق على طمس بعض الصياغات الشفوية عند كتابة نص المقابلة.

10- اختتام المقابلة بكل وضوح

في نهاية المقابلة – حتى وإن كان قد جرى الاتفاق على كافة قواعد المباراة مسبقاً – يؤكّد الصحافي لضيفه الغاية الصحفية للكلام الذي أدلى به، وذلك لتفادي أي سوء تفاهم: نشر كلامه كما ورد على شكل “أسئلة – إجابات”، أو نشر كلامه جزئياً على شكل مقتطفات حرّة أو مُختارة بموافقة الطرفيْن، أو نشر الكلام بعد خضوعه للمراجعة، وغيرها. يعود الأمر للصحافي أن يقرّر عن وعي أيّ صيغة سيعتمد، على أن يوضح ذلك لضيفه. كالعادة، تكمن قيمة اتفاقي مع قيصر في كونه جلياً: يأذن لي دوماً بتسجيل كلّ أقواله ونشرها حسب رغبتي… مع الاحتفاظ بحقّ إنكار الإدلاء بهذه الأقوال. كلمته مقابل كلمتي، يبدو لي أنّ هذه التسوية مشرّفة.